تحليل نص روني ديكارت في العادة والإرادة
طرح المشكلة: إن الأفعال الإرادية تظهر قيمة الإنسان، فهي أرقى أنواع السلوك المجسدة للماهية العاقلة، والتي تميز الإنسان عن باقي الكائنات الأخرى، لأنها أفعال يصاحبها الوعي، وتبرز فيها قدرة الذات على التمييز والاختيار بين الأفعال بالتنفيذ أو الترك، وهذا ما يتطلب تداخل واندماج جوانب متعددة في الذات للتعبير عن حقيقة الفعل الإرادي وقد جاء نص "دیکارت" في هذا الإطار ليبرز الأساس الذي تقوم عليه الأفعال الإرادية و مختلف الأطراف التي تتجادها، وهنا نطرح الإشكال التالي: كيف نفهم الأفعال الإرادية؟ وما هي الأسس والضوابط التي تحكمها؟
- في محاولة حل المشكلة: يرى "ديكارت" في هذا النص أن الإرادة قدرة واستطاعة ذاتية متحررة من أي ضغط، فهي تصميم واع، وقرار ذهني هادف واختيار يجسد عزم الذات وقصدها فيما تريد أن تقدم عليه لذلك يقول "ديكارت": "يكفي أن نحسن الحكم، حتى نحسن العمل به" وهذا ما جاء في عبارة النص: "وبعبارة أدق، لكي نثبت أو نفي الأشياء التي يعرضها الذهن علينا ولكي نقدم عليها أو تحجم عنها، إنما نتصرف بمحض اختيارنا دون أن نحس ضغطا من الخارج يملي علينا ذلك التصرف" ويؤكد "ديكارت" أن إثبات إرادتنا والتعبير عن اختيارنا لا يعني اللامبالاة وعدم الاهتمام بالأشياء ولا التعامل معها وترك الأمور بلا حكم ولا اختبار لأي منها... فهذا كله لا يدل على حقيقة الإرادة ولا يمثل جوهر الاختيار لأن فيه انعدام للدافع وإلغاء للحكم و بالتالي عدم الإقدام على الفعل أو الترك وفق أسس واضحة.
بل الأصل في الإرادة هو الاختيار بين الأمور وترجيح أحد الأطراف و بالتالي استنتاج ومفاضلة بين الأشياء، لهذا يقول "سبينوزا": "الإرادة هي القدرة على الإثبات والنفي". و يصرح "ديكارت" أن المعرفة الإرادية واختياراتهما للأفعال إما أنما تدرك بالبداهة ما في الأفعال من صواب و خير فتقدم عليها لأنه حسب "أفلاطون": "يكفي أن نعرف الخير حتى نفعله" أو أن الله جهز عقولنا وأفكارنا لتتجه إلى الحق والخير وتبتعد عن المفاسد، وهذا كله لا ينقص من عزم الإرادة وقوة الاختيار بل بالعكس يزيدها قوة ويسند أحكامها. و يخلص صاحب النص في الأخير أن الوقوف في الوسط بلا حكم ولا مفاضلة بين الأمور هو أدنى مراتب الاختيار، وضعف الإرادة وهذا يعني عيوب المعرفة ونقصها وعدم وضوحها، وجهل الذات بحقائق الأمور لأن يقين المعرفة هو محرك الإرادة للعمل. نص دیکارت حاول تسليط الضوء على حقيقة الفعل الإرادي وارتباطه بالحكم العقلي والاختيار، لكن ما يلاحظ على هذا النص أن "ديكارت" قد ساوى بين الإرادة والاختيار وجعلهما مترادفين رغم أن الاختيار ما هو إلا جزء من الفعل الإرادي، من ناحية أخرى ربط الحكم العقلي كمعرفة دافعة للعمل رغم أن الحكم العقلي وظيفته تنوير الإرادة وتزويدها بالمعرفة وليس دفعها للعمل، لأن ذلك من عزم الذات وتصميمها.
حل المشكلة: إن الإرادة قوة كامنة في الذات وظيفتها تفعيل مختلف الوسائل لأداء عمل ما، فهي استطاعة متعددة الجوانب أحكام عقلية، اختیار، عزم الذات.... لهذا يقول "لابيي": "يكون الفعل إراديا عندما يثبت صحته وإمكانه" .
"إن الفعل الإرادي يعبر عن کامل شخصیتنا واختيارنا وقراراتنا الواعية" دافع بالبرهان عن هذه الأطروحة
استقصاء بالوضع
طرح المشكلة: الشائع لدى الحس المشترك عن حقيقة الإرادة أنها ضرب من ضروب الرغبة والميل والعواطف التي هي رهن قدرتنا، واستطاعتنا على تقريرها وتنفيذها والأخذ بها، فيمكن أن أريد الانتماء إلى أحد الأحزاب أو تأليف كتاب أو الزواج، فإن ذلك كله ما هو إلا مظهر من مظاهر الرغبة وإرادة تقريرها، لكن هناك فكرة تناقضها يعتقد أصحابها أن الإرادة فعل مرکب، يعبر عن تكامل كل أبعاد الذات واختياراتها مع وعي ما تقدم عليه من فعل أو ترك بعيدا عن أي تدخل أو ضغط خارجي. وهذا ما يدفعنا للوقوف أمام هذه الأطروحة متسائلين: كيف يمكن الدفاع عن هذه الأطروحة التي تجعل الفعل الإرادي معبرا عن كامل شخصيتنا وقراراتنا؟ وكيف يمكن إثبات صحتها وتبنيها؟
في محاولة حل المشكلة:
عرض منطق الأطروحة:
إن أساس هذه الأأطروحة يدل على قيمة الفعل الإرادي واعتباره أرقى أنواع الأفعال المجسدة لماهية الإنسان العاقلة والمعبرة في نفس الوقت عن طابع الاختيار والقصدية وحيوية الوعي المميزة للذات الإنسانية عن باقي الكائنات الأخرى. و تستند هذه الأطروحة في دعواها على المسلمة القائلة: أن الشيء الأساسي والجوهري في الإنسان هو إرادته، فهي جوهر الطبيعة البشرية ومجسدة الوجود الإنسان كله، باعتبارها قدرة متمكنة في الذات ودافع حيوي إلى الأفعال وإدراك ووعي لأسباب الأفعال والظروف المتحكمة فيها، مع صدور الأحكام والعزم على التنفيذ أو الكف عن ذلك، أليس كل هذا دليل على تحليات الفعل الإرادي و فعاليته في التعبير عن كامل الذات الإنسانية واختياراتها وقراراتها الواعية؟ ويؤكد هذا المعنى ما ذهب إليه "شوبنهاور" الذي جعل الإرادة مبدأ الوجود والدالة على جوهر الكائن الإنساني وما العقل والميول والرغبات وأعضاء الجسم إلا أدوات للإرادة وخدمتها وتنفيذ وتبرير قرار اتها، يقول "سبينوزا": "إن الإرادة لا تبدو في الجسم وحده، بل في كل مظاهر الطبيعة البشرية". ويذهب "بول فولكيي" إلى القول: "أن الفعل الإرادي لا يرجع إلى حاصلة الميول ولا إلى الحكم، ولا حتى إلى اقتران الميول وبالحكم المرجح"، إذن فهي ترجع إلى الذات كلها، وعلى هذا الأساس اعتبر "كانط" الإرادة الخيرة حشدا لجميع الوسائل الممكنة في طاقتنا مثل شيء يحتفظ في نفسه بكل قيمته".
عرض منطق الخصوم ونقدهم :
يرى هؤلاء الخصوم أن الإرادة ما هي إلا ميول ورغبات في النفس لهذا اعتبر "كوندياك" أنها ضرب من ضروب الرغبة أو قل هي رغبة أقوى، يقول: "ليست الإرادة سوى رغبة مطلقة تبلغ مبلغا يدفعنا إلى الاعتقاد بأن الشيء المرغوب هو رهن قدرتنا". ويؤكد الفيلسوف "ووندت" أن الإرادة ترجع إلى دافع داخلي يتمثل في العواطف والانفعالات، فالعواطف أصل في تصور الغايات من أفعالنا، وأن تضارب هذه العواطف بعضها ببعض أصل في مناقشاتنا العقلية، والانفعال الناشئ م ن
هذا التضارب يحملنا إلى العزم ومن ثمة إلى التنفيذ.
النقد : غير أن هذا الموقف بحده ليس مؤسسا على يقين لأن كل الدلائل تثبت أن الأفعال الإرادية ليست مجرد عواطف ورغبات ثائرة استبدت بأصحابها، بل إن الأفعال الإرادية أفعال واعية ومتأنية وقصدية ومحددة الأسباب والمبررات وحكمة في مواجهة المواقف. فالإرادة ليست أفعال اندفاعية أو تلقائية بل هي قدرة وسيطرة وقوة وتحكم. كما أن سيطرة الرغبات والعواطف تقضي على أهم عنصر في الإرادة هو التأمل أو الحكم العقلي لهذا اعتبر "هاربارت" أن الفعل يكون إراديا عندما يفوز التصور العقلي. وكل هذه الانتقادات تثبت أن الرغبات والعواطف لا تمثل حقيقة الفعل الإرادي وهذا ما يدفعنا لتدعيم أطروحتنا بحجج أخرى:
دعم منطق الأطروحة بحجج شخصية إن الإرادة تعبر عن كامل شخصیتنا لأنها تشكل القوة الكامنة في الذات والتي تعمل على تفعيل مختلف الوسائل لأداء فعل معين تعزم عليه الذات. وقد أكد "إيمانويل موني" زعيم الفلسفة الشخصانية أن ما يميز الإنسان كماهية و كجوهر عن الأشياء والموضوعات الأخرى هو إرادته الواعية يقول: "لا يمكن اعتبار الإنسان شيئا أو موضوعا لأنه يتميز بالإرادة والوعي". و تقول "هيلن زيمرن": "إن الإرادة هي الفاعل والمحرك في كل الوظائف الجسمية واللاشعورية وإن الوجود العضوي نفسه لا شيء بدون الإرادة". وقد أكد "برغسون" أن الإرادة قيمة كيفية تتجلى في ديمومة الشعور لذلك فهي أفعال تصدر عن الإنسان بأكمله.
حل المشكلة. نستنتج أن الأفعال الإرادية تعبر عن ماهية الإنسان، وتصدر قرارات وأفعال تحسد كامل الشخصية، لذلك فالأطروحة صحيحة ويمكن الدفاع عنها وتبنيها.
تعليقات
إرسال تعليق